معايير العمل الإحصائي

أن الوسائل الإحصائية مثلها مثل العديد من التكنولوجيات الأخرى، يمكن استخدامها للخير والشر في المجتمع، وحيث أن الغاية من أي تطبيق إحصائي هو خدمة المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر، لذلك هناك معايير واعتبارات ينبغي توافرها للإحصائيين في مجالات البحث العلمي، ويلاحظ ارتباط مفهوم البحث العلمي باستخدام الأساليب الإحصائية مما أصبح من متطلبات البحث الجيد استخدام الوسائل الإحصائية في جمع البيانات وتفسيرها والتوصل إلى دلالات إحصائية لقبول الفرضيات أو رفضها بغية تعميم النتائج التي توصل إليها الباحث، حتى أن البعض يصف البحوث التي لا تستخدم الإحصاء بأنها غير علمية.
ومن هذه المعايير، ورغم أن جميع العلوم تشترك في استخدام الطريقة العلمية من اجل الوصول إلى معرفة جديدة أو حل مشكلات قائمة، لكن كل علم يكاد يختلف عن الآخر في تقنياته وفي دقة أدواته وإجراءاته، فنلاحظ أن متغيرات العلوم الطبيعية يمكن قياسها بدقة في حين يصعب قياس المتغيرات الإنسانية لاسيما البدنية والوظيفية والعقلية والنفسية وغيرها، لكونها متغيرات افتراضية لا يمكن قياسها ببنائها أو تكوينها، بل بأثرها أو تأثيرها، لذلك لم تستطع العلوم الإنسانية بناء تعميمات مكافئة لنظريات العلوم الطبيعية، وبخاصة في مدى قوتها التفسيرية وفي قدرتها على تقديم تنبؤات دقيقة، وقد يعود ذلك لكون القياس في العلوم الإنسانية غير مباشر أي لا يقيس الظاهرة أو الخاصية بل يقيس السلوك الدال عليها، وانه غير تام إذ لا يقيس كل الخاصية بل عينة منها، لذلك فان الصفر افتراضي لا يدل على انعدام الخاصية المقاسة، لذلك يتطلب في البحوث أن تكون العمليات الرياضية والمعالجات الإحصائية بأفضل ما تكون من دقة في الاختيار وفي الاستخدام وفي التفسير والتحليل، واعتماد أكثر من عينة كي يمكن تصنيف الإفراد في مقدار ما يملكون من الظاهرة أو الخاصية المقاسة بشكل منهجي بعيد عن الذاتية وتعميم النتائج على إفراد المجتمع، وعليه ينبغي أن تكون لدى الباحث خبرة كافية في الإحصاء، ولا سيما في اختيار أو تشخيص بعض الوسائل الإحصائية الأساسية المناسبة لبحثه، حتى وإن كانت خبرة متواضعة كي يساعد الإحصائي على أقل تقدير في توضيح متغيرات بحثه وطبيعتها القياسية ذات العلاقة بنوع الوسيلة الإحصائية.
من المشكلات الأساسية التي تواجه معظم الباحثين في هذا المجال هو صعوبة تحديد الإحصاء المناسب لفرضيات البحث ومتغيراته، إذ ليس من الصحيح أن يختار الباحث التحليل الإحصائي الذي يدعم فرضيته أو ينقضها بحسب توقعه أو رغبته المسبقة. كما انه مسئول أخلاقيا أمام المستفيدين من البحث، إذ يتم نشر الأبحاث عادة وقد يستثمرها الآخرون، لذا يكون ملزما أن لا تؤدي النتائج إلى إعطاء معلومات مضللة، وان يذكر النتائج كما هي بصورة نزيهة ودقيقة من غير تضليل أو تحوير وأن يذكر جميع نتائج تحليلاته الإحصائية وليس فقط التي تكون دالة إحصائيا، وقد يميل بعض الباحثين للسهولة في إجراء البحث، فيقعون في أخطاء أو تضليلات غير مقصودة، أو أنهم ينظرون إلى نتائج أبحاثهم بأنها خالية من العيوب، ويسعون إلى جعلها تدعم تصوراتهم المسبقة، مما يفضل قبل البدء بالبحث أن يراجع زميل موثوق به خطة البحث للتأكد من دقتها وخلوها من التأثير الذاتي للباحث.
إن الضعف الموجود لدى معظم الباحثين في قدرتهم على اختيار أو تحديد الوسيلة المناسبة لأبحاثهم قد دفعت إلى بروز تجاوزات أخلاقية في إحصاءات عدد كبير من البحوث ومن أهم هذه التجاوزات بروز ظاهرة المكاتب التجارية للتحليلات الإحصائية للباحثين والطلبة، أن بعض المسئولين عن هذه المكاتب أو القائمين بهذه المهمة ليس من المتخصصين بكفاءة في الإحصاء، ولا حتى باختصاص القياس والتقويم وأن بعضهم يقوم بدلا من الباحث بتحليل النتائج الإحصائية لبحثه وتفسيرها، ولا يكتفي بالتحليل الإحصائي، مما يشكل خرقاً لأخلاقيات الإحصاء خاصة ولأخلاقيات البحث العلمي عامة. وبعضهم لا يقوم بإدخال البيانات جميعها في الحاسوب بل يكتفي بعينة أو بجزء منها لا سيما عندما تكون البيانات كثيرة ومتنوعة، ويقوم بإضافة أرقام أو بيانات للسهولة أو تكرار البيانات باستخدام الحاسوب أو استخدام بيانات سابقة مخزونة في ذاكرة حاسوبه تقترب في نوعيتها ومقدار درجاتها من درجات البحث الجديد. وقد يقوم البعض بالاتفاق مع الباحث لإعداد أداة القياس أو الاختبار لبحثه وتطبيقها على العينة، ومن ثم حساب الدرجات وتحليلها إحصائياً وتفسيرها، في حين أنهم لا يقوموا فعلا بكل هذه الإجراءات، سوى إعداد الأداة ووضع نتائج قياسية لها بتقديراتهم الشخصية ومن ثم إخضاعها للتحليل الإحصائي، كما يحاول بعضهم لإرضاء الباحث أو توقعاته التلاعب في إحصاءات البحث، وأحياناً بنتائجه لتتفق مع فرضياته، وقد يجعل البعض الإحصاء يهيمن على البحث أو على الفرضيات في حين ينبغي أن يكون في خدمة الفرضيات. أو يحاول إخفاء التحليلات الإحصائية غير الدالة وإظهار أو ذكر التحليلات الإحصائية الدالة فقط كما يحاول البعض بشكل مقصود أو عفوي التحيز لبعض الوسائل الإحصائية دون غيرها، أما لشيوع هذه الوسائل بين الباحثين أو لسهولتها في الاستخدام، وأحيانا يختار الوسائل المعقدة أو الصعبة في الاستخدام والتفسير ليظهر قدرته أمام الآخرين، على الرغم من توافر إحصاءات تؤدي الغرض نفسه بأقل وقت وجهد، وواضحة أو سهلة في التحليل والتفسير.
في مجال البحوث التي تعتمد على فرضيات صفرية وفرضيات بديلة، يلاحظ أن اغلبها تؤكد في أهميتها على دور المتغير المستقل في المتغير التابع وتظهر تأثيره من خلال عرض النتائج ومناقشتها ودعمها بالمصادر والدراسات السابقة، مما يظهر فيها تحيز الباحث المسبق للفرضية البديلة، ثم تأتي اغلب نتائج هذه البحوث رافضة للفرضيات الصفرية، وقبولها للفرضيات البديلة، حتى أن البعض من طلبة الدراسات العليا يقوم بتغيير البيانات عندما لا يمكن رفض الفرضية الصفرية، وذلك تهربا من الاتهام من أن الباحث كان غير دقيق في اختيار المشكلة، وأن الوقت والجهد المبذولين في البحث ذهبا بدون فائدة.
تشترك الكثير من الرسائل والاطاريح الجامعية في اغلب الدراسات بتحديد حجم العينة بصورة خاطئة أو تحديد نوع المعاينة بصورة خاطئة بالإضافة إلى الاختيار الخاطئ في مفردات العينة والتحيز في عملية جمع المفردات للعينة وهذا له الأثر الكبير في عدم استخدام العينة بشكل صحيح حيث العينة لاتمثل المجتمع التمثيل الصحيح وبالتالي استخدام الوسائل الإحصائية الغير صحيحة والحصول على الكثير من النتائج غير الدقيقة والخاطئة. كاستخدام معامل ارتباط بيرسون في البيانات الوصفية والرتبية (التي تعتمد الرتب) بدلا من استخدام معامل ارتباط الرتب لسبيرمان في هذه البيانات، واستخدام العديد من الاختبارات الإحصائية المعلمية كاختبار F,t في البيانات الوصفية والرتبية بدلا من استخدام الاختبارات الإحصائية اللامعلمية التي تفيد وتستخدم بكثرة في مثل هذه البيانات. اواستخدام الوسط الحسابي الاعتيادي في البيانات التي تعتمد على الأوزان بدلا من الوسط الحسابي المرجح أو الموزون الذي من المفترض إن يستخدم في هكذا بيانات وغيرها.
كما لوحظ استخدام الأساليب الإحصائية التقليدية على الرغم من وجود مشاكل كثيرة في البيانات كوجود القيم الشاذة أو بعد البيانات عن التوزيع الطبيعي أو عدم التجانس وغيرها مما يعكس خللا في التحليل والنتائج.
وأخيرا لان تطور المجتمع يعتمد إلى حد كبير على الوسائل الإحصائية في البحوث العلمية السليمة والدقيقة فعلى جميع ممارسي الإحصاء مهما يكن مستوى تدريبهم أو تحصيلهم العلمي ومهنهم أن يكون موضوعيين ونزيهين، ويبذلون عناية خاصة في توجيه الباحثين من طلبة الدراسات العليا الذي همهم الوحيد انجاز أبحاثهم ضمن المدة المقررة لانجازها على وفق التعليمات الجامعية إلى إن تصميم الدراسة هو الذي يحدد الأساليب الإحصائية التي ينبغي استخدامها وليس العكس، فالباحث لا يختار الوسائل التي تستهويه ومن ثم يصمم الدراسة لتناسب تلك الإحصاءات والتأكيد على جمع البيانات بطريقة لا تسمح لانحيازاته الشخصية التأثير في ملاحظاته، وينشدون الحقيقة ويقبلونها حتى لو كانت متعارضة مع أرائهم الذاتية أي أن عليهم التزامات أخلاقية وعلمية واجتماعية لأداء عملهم بأسلوب أخلاقي ومهني بحيث يكون فيها إلاحصائي مؤتمن مسئول كما هو الحال لدى المترجمين القانونيين.


اعداد وتقديم: أ.د. ايمان حسين الطائي، جامعة بغداد – كلية التربية الرياضية.

شاركونا تعليقاتكم حول الموضوع،،